بعد ستة أعوام من معارك طاحنة شارك فيها أكثر من 30 دولة، من بينها كلُّ القوى العظمى في العالم ضمن محورين متناحريْن، وبعد أكثر من 50 مليون قتيل وأكثر من 80 مليون جريح وخسائر اقتصادية تقدر بأربعة تريليونات دولار أميركي، انتهت الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، التي شكّلت أكبر كارثة بشرية من صُنع الإنسان في القرن العشرين، مخلِّفة تداعيات إنسانية واقتصادية وسياسية غير مسبوقة. غير أنه من رحم الأزمات والتحديات تولد الفرصُ والتغييرات، كما تُعلّمنا الحياة. وكنتيجة للحرب وما أفرزته من نتائج مأساوية، تأسّست الأمم المتحدة واتفق العالم على ميثاق لحقوق الإنسان وإنشاء صندوق للنقد الدولي وبنك عالمي، وتم تسريع اختراع العديد من المنتجات التي توقف العمل عليها ما قبل الحرب، لتغيِّرَ وجهَ البشرية تماماً، مثل الكومبيوتر والمحرك النفاث والطاقة النووية والبنسلين وآلات النسخ والطائرات المدنية الحديثة وقطاع الفضاء وغيرها.
واليوم، تخوض البشرية «حرباً» لا عهد لها بها، من حيث سلاحها غير التمييزي وحجم تأثيرها الأوسع نطاقاً، جغرافياً واقتصادياً وجيوسياسياً؛ «حرباً» شكّلت العنوان الأول والأخير لعام 2020 وهزّت أعتى المنظومات الصحية في العالم وأكثرها صلابة ومناعة، ولم تبقَ دولة بمنأى عن ميدانها، وسط اصطفاف البشرية في جبهة واحدة للتصدي لتداعياتها. نتحدث هنا بالطبع عن وباء فيروس «كورونا» المستجد (كوفيد – 19)، هذه الجائحة العالمية التي راح ضحيتها حتى اليوم أكثر من 1.7 مليون إنسان، متسببة في خسائر اقتصادية تخطت حتى اللحظة 11 تريليون دولار أميركي. فما التغييرات الكبرى التي سيشهدها العالم بعد أن تضع «الحرب» أوزارها؟
شخصياً، أعتقد أن العالم سيكون أمام مرحلة جديدة سيتغير فيها الكثير من القناعات وينهار الكثير من الثوابت والمسلَّمات، وسنشهد قواعد جديدة في الحراك الاقتصادي والمجتمعي. وكي تستطيع الحكومات التعامل مع عالم ما بعد حقبة الوباء، ينبغي لها فهم القواعد الجديدة والاتجاهات العالمية الكبرى لما بعد معركة الوباء العالمية. وفيما يلي 5 توجهات جديدة في هذا العالم الجديد، يُتوقَّع أن تحكم توجهات حكومات المستقبل وأداءها.
أولاً- العولمة العكسية: أجبرت الأزمة الصحية العالمية جميع الدول على رفع الأسوار وتقييد حركة الانتقال، وإعادة بناء منظوماتها اللوجيستية وتنظيم سلاسل الإمداد. وشهد العالم أنانية بعض الشعوب والأمم في الاستحواذ على الإمدادات، كما ازداد التنافس الجيوسياسي بين الدول ذات القوى الاقتصادية الكبرى، واهتزت قناعات الكثير من الحكومات وإيمانها بالعولمة، وأصبحت المصلحة الوطنية ذات أهمية قصوى، كما شكّلت الصناعات الوطنية، خصوصاً في قطاعي الغذاء والدواء، مسألة وجودية في استراتيجيات الحكومات. كل هذه العوامل والنتائج من شأنها أن تؤدي إلى تراجع في العولمة وتفككها، وسيشهد العالم مزيداً من الاتفاقيات الثنائية الاقتصادية والسياحية والغذائية والدوائية وغيرها بين الدول. ولا بد أن تستعد الحكومات لعالم جديد أقل عولمة عن العقود السابقة.
ثانياً- الثقة بالحكومات: دفعت الجائحة شعوب العالم إلى الالتفاف حول حكوماتها، وعزّزت من اعتماد شتى القطاعات على المنظومة الحكومية لإدارة مختلف جوانب الحياة، لا سيما في القطاعات الخدمية. وفي هذا الخصوص، سجل مؤشر «إيدلمان» للثقة بالحكومات، في نسخته العشرين، أعلى معدل له في تاريخه ببلوغه 65% وارتفاعه 11 نقطة خلال أشهر فقط. لقد ولّدت الأزمة أحاسيس وطنية عالية رافقها أيضاً ارتفاع في النبرة الشعبوية في بعض الدول. اليوم، أمام حكومات العالم فرصة ذهبية لترسيخ هذه الثقة والبناء على المكتسبات التي حققتها في أثناء إدارة الأزمة بنجاح. وفي المقابل سيفقد بعض الدول تلك الثقة بشكل كامل، بسبب سوء إدارة الأزمة، كما شهدنا في بعض الدول التي فشلت منظوماتها الحكومية في الارتقاء بأدائها وأدواتها، وقد تداعت هياكلها التنظيمية والتنفيذية أمام كارثة صحية عالمية بهذا المستوى.
ثالثاً- البيانات الوطنية سيادة وطنية: حتى عهد قريب، كانت الحكومات تغضّ الطرف عن انتقال البيانات عبر مؤسسات عابرة للقارات، باعتبار ذلك جزءاً من تسهيل اندماجها في العالم الرقمي. بيد أنه اليوم، وبعد أن انتقل أغلب الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية للمجتمعات إلى العالم الافتراضي، كإحدى نتائج وتداعيات الأزمة الصحية العالمية التي أرغمت مئات الملايين من البشر على العمل والدراسة وممارسة مختلف الأنشطة الحياتية والمهنية من البيت، أصبحت أهمية حماية البيانات تماثل أهمية حماية الاقتصاد وأهمية حماية الحدود وأهمية حماية وجود الدول ككل. وسوف تتضاعف في الفترة المقبلة وسائل الرقابة والحماية، وستحتاج الدول إلى وضع آليات ونظم لحماية خصوصيتها الرقمية وبياناتها السيادية.
رابعاً- نموذج جديد لإدارة الحكومات: حاول الكثير من الحكومات التوجُّه نحو العالم الرقمي عبر السنوات الماضية، لكنها كانت دائماً تواجه تحدياتٍ لها علاقة بالميزانيات والأنظمة البيروقراطية والأنظمة القديمة المقاومة للتغيير والرافضة للابتكار والتطوير. غير أنّ الضغط الكبير الذي شكّلته الجائحة العالمية على المنظومات الحكومية لتغيير نهج عملها سيكون مدخلاً لتغيير نموذج العمل الحكومي بالمعنى الجذري. الحكومات اليوم مطالَبة بأنظمة وقواعد جديدة تحكم العمل عن بُعد، وتحكم مشترياتها عن بُعد، وتطوّر مواردها البشرية وإنتاجيتهم عن بُعد، ولا بدَّ من وضع أنظمة تشريعية تدعم كل ذلك، ولا بدّ من تطوير نماذج جديدة لتقديم خدماتها لجمهورها تتوافق مع تطلعاتهم وتعطيها المرونة الكافية للتعامل مع أي أزمات أو تحديات مستقبلية.
خامساً- الشراكة مع القطاع الخاص لم تعد خياراً: لقد أدركت الحكومات من خلال أزمة وباء فيروس «كورونا المستجد» العالمية أن القطاع الخاص يمكن أن يشكل فارقاً وجودياً في أثناء الأزمات بامتلاكه للموارد، وسلاسل الإمداد، والقدرات الطبية، والبحثية، واللوجيستية، وامتلاكه للبيانات الشخصية وسهولة وصوله إلى جميع الفئات المجتمعية؛ وبالتالي لا يمكن بناء استدامة داخلية حقيقية ولا يمكن تحقيق أمن غذائي ودوائي ولا يمكن إدارة أي أزمة مستقبلية من دون شراكة متينة وواضحة بين القطاعين الحكومي والخاص. المطلوب من حكومات العالم اليوم بناء منظومة جديدة، تشريعياً وتنظيمياً وتقنياً، تستطيع من خلالها تحقيق تكامل في الأدوار والمسؤوليات بينها وبين القطاع الخاص.
يقول ونستون تشرشل: «لا تخسر مكاسب الأزمات الكبيرة». لقد مرّ العالم، وما زال، بأزمة كبيرة عابرة للحدود وعابرة للأجناس والثقافات؛ أزمة جعلتنا نعتقد بأن الحياة يمكن أن تتوقف، وبأن العالم يمكن أن ينهار. خسرنا الكثير خلال هذه الأزمة، لكن الخسارة الحقيقية هي أن تعيش الأجيال القادمة في عالم لا يكون أفضل من عالمنا اليوم، أو في عالم أقل استعداداً لأزمات جديدة لا يمكن التنبؤ بها.
إن من واجب الحكومات أن تحاول الإجابة عن التساؤلات الكبرى بكل شفافية: ما دورها في المستقبل؟ وكيف سيتغير نموذج عملها؟ ما طبيعة العلاقات الدولية التي ستضمن مصالح جميع الأطراف خلال الأزمات المقبلة غير المتوقعة؟ ما دور العلم والعلماء في تحديد مستقبلنا؟ وإلى أي مدى يمكن أن تستثمر الحكومات مواردها في دعم الأبحاث الجديدة التي تسعى لإيجاد حلول وإجابات لمعضلات وتحديات مستجدة؟
والسؤال الأهم أيضاً: هل جعلت الأزمة الصحية العالمية الدول أكثر إنسانية؟ وهل قرّبت الشعوب بعضها من بعض؟ وهل استطاعت أن توحِّد القلوب والعقول لبناء مستقبل أفضل للبشرية؟ وهل سيشكّل «كوفيد – 19» حدثاً فاصلاً يرسم نهاية لعالم قديم وبداية لعالم مختلف؟
مقال معالي محمد عبدالله القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء، لصحيفة الشرق الأوسط
تاريخ النشر: 3 يناير 2021