الجمعة, 27 ديسمبر, 2024


بالصور.. قصة تأسيس مدينة دبي للإنترنت .. سيليكون فالي الشرق الأوسط
يناير 27, 2024

شهدت مدينة دبي للإنترنت إبرام صفقات مليارية مع شركات عالمية مثل أوبر وأمازون

في أحد أيام أكتوبر عام 1999، اصطحبني الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في سيارته إلى منطقة صحراوية بعيدة تقع بين دبي وأبوظبي بالقرب من جبل علي. وصلنا أرضاً “سبخة” تمتد على مساحة كبيرة. نزلنا من السيارة، وكانت الأسئلة لا تتوقف في ذهني حول سبب قدومنا لهذا المكان.

مشهد نادر يظهر موقع مدينة دبي للإنترنت عام 1999

مشهد نادر يظهر موقع مدينة دبي للإنترنت عام 1999

لم أعرف إلى أين كانت الوجهة ولكن على امتداد الرحلة، وبينما كنا نعبر مساحات شاسعة خالية من العمران، كان سموه يخط المستقبل برؤية استباقية لم يفكر بها قائد غيره في تلك الأثناء.. كان سموه يحلم بتحويل تلك المنطقة إلى معلم من معالم القرن الواحد والعشرين ليس فقط على مستوى الدولة وإنما في المنطقة والعالم. ثم أشار سموه إلى تلك الأرض الفارغة وهو ينظر ببصره إلى منطقة صحراوية معزولة.. وببصيرته إلى مركز عالمي يربط الشرق بالغرب قائلاً : يا محمد.. أريدكم أن تعملوا هنا على بناء مدينة للتكنولوجيا ومقابلها مدينة للإعلام وأمامكم عام لتنفيذ المشروع.” بهذه الكلمات بدأ معالي محمد عبدالله القرقاوي، مدير عام مدينة دبي للإنترنت سابقاً، ووزير شؤون مجلس الوزراء، حديثه عن قصة بناء المدينة قبل عقدين من الزمان.

مدينة دبي للإنترنت 1999: طموح وقرار جريء

“المهمة المستحيلة”.. هذا ما قد يصف التحديات الكبيرة التي تنطوي على إنجاز هذه المهمة التي بدأ العد العكسي لإنجازها لحظة تكليف سموه بالمشروع حيث قال لي الشيخ محمد: سأمهلكم مدة عام لإنجاز المشروع.

مدينة دبي للإنترنت 1999: طموح وقرار جريء

محمد بن راشد يطلع على مخطط لمدينة دبي للإنترنت عام 2000

وبعد مرور يومين من زيارة المنطقة الصحراوية مع الشيخ محمد، التقيت سموه لمناقشة خطة المشروع وعندما سألته عن الميزانية، كانت الصدمة عندما أخبرني بأنه لا توجد ميزانية، وأن المدينة يجب أن تكتمل خلال عام بحد أقصى، وهذا كان هذا التحدي الثاني أمامنا.

 أما التحدي الثالث فهو أننا كنا نتعامل مع موضوع حديث نسبياً والجدوى المستقبلية منه ما زالت غير واضحة فنحن سلكنا طريقاً لم يسلكه قبلنا أحد في المنطقة، وكان الإنترنت حينها في بداياته وكان النقاش السائد في الصحف المحلية يدعو لمنع الانترنت.

وبعد أيام في 29 أكتوبر، عقد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مؤتمراً صحفياً بحضور عدد من المسؤولين في حكومة دبي وأعلن فيه عن إطلاق مشروع المدينة حيث قال:

” لقد برزت خلال السنوات القليلة الماضية بوادر تشكل اقتصاد عالمي جديد يختلف تماماً عن كل ما سبقه ولا يختلف اثنان على أن عصر الاقتصاد الصناعي قد بدأ بالانكفاء لحساب دورة جديدة من التقدم الاقتصادي العالمي هي عصر اقتصاد المعلومات. إن لواء الريادة سوف يعقد مستقبلا للدول التي تعتمد على المعرفة وتكنولوجيا المعلومات والأفكار والخدمات أكثر من اعتمادها على الموارد الطبيعية. وأنا على يقين من أن الإمارات سوف تلعب دوراً عالمياً مؤثراً في عالم أعمال الشركات والتجارة الإلكترونية على الإنترنت.”

بطموح يعانق قمم السماء، كان توجيه الشيخ محمد بن راشد لإنشاء المدينة، وبقرار جريء من سموه لوضع بصمة لدولة الإمارات في الخريطة العالمية للاقتصاد الجديد، بدأنا من هذا المكان نشكل بداية جديدة لتاريخ مشرق للمنطقة.

 عبر مشروع مدينة دبي للإنترنت، كانت دبي تلتقط موجات المستقبل في تاريخ صادف تاريخ استثنائي للعالم بأسره، ففي 29 أكتوبر عام 1969، كان العالم على موعد مع ميلاد شبكة الإنترنت حيث نجحت عملية إرسال أول رسالة من مضيف إلى مضيف بين مختبرين أمريكيين أحدهما في لوس أنجلس والآخر في ستاندفورد. وفي 29 أكتوبر من عام 1999، دبي أخذت على عاتقها صنع مستقبل جديد للمنطقة، وقيادة هذا الاتجاه في فترة زمنية قصيرة من اختراع شبكة الويب العالمية “WWW” في 1991.

  

“إنها مرحلة لا تشبه غيرها، مرحلة من البناء والتأسيس للمستقبل.. مرحلة مليئة بالعمل الذي لا يتوقف.. لأننا في دولة لا تعرف الراحة وحركة التنمية فيها لا تهدأ، لذا شحذنا الهمم.. وبدأنا العمل ” هكذا وصف القرقاوي هذه المرحلة من 29 أكتوبر 1999 حتى تدشين المدينة، وقال: عملاً بتوجيهات الشيخ محمد، بدأنا بوضع الخطط والدراسات الميدانية بالتعاون مع فريق من الخبراء والمتخصصين في مجال تقنية المعلومات من أجل وضع المشروع حيز التنفيذ خلال سنة على أبعد تقدير كما وجّه سموه. وقد يتفاجأ البعض عند معرفتهم أن هذا المشروع العملاق حينها والرائد اليوم بدأ فقط بـ 20 موظفاً حيث عملنا بروح الفريق الواحد وضعنا سوياً اللبنات الأساسية لهذه المدينة.”

اجتماعات فريق مدينة دبي للإنترنت مع عدد من الشركات التكنولوجية لاستقطابها إلى المدينة

اجتماعات فريق مدينة دبي للإنترنت مع عدد من الشركات التكنولوجية لاستقطابها إلى المدينة

 

مدينة دبي للإنترنت - محمد القرقاوي في لقاء مع إحدى شركات التكنولوجيا في بداية تأسيسها

 محمد القرقاوي في لقاء مع أحد الشركات التكنولوجية في بداية التأسيس

 

وبالنسبة لرأس المال، استلفنا قرضاً من البنك البريطاني في الشرق الأوسط (HSBC) بقيمة 200 مليون دولار ثم أخذنا مكاتب وأثاث مستعمل وبدأنا المشروع.. وبدأنا معه مغامرة لا تقبل الخسارة فنحن نتحدث عن مجال جديد كلياً علينا في المنطقة وعلينا أن نقنع الآخرين للإيمان بفكرتنا وقدرتنا على تنفيذ هذا المشروع ومدى نجاحنا حيث لم تكن دبي بحجم وسمعة ما هي عليه اليوم، وكان جزء من عملنا إبرام شراكات مع شركات ومؤسسات عالمية لنقل مقراتها إلى دبي، وكان هذا تحدٍ كبير بالنسبة لنا. وفعلاً، نجحنا في إقامة هذه الشراكات وكان قد تم حجز كل المساحات المتاحة في مدينة دبي للإنترنت قبل أن ترتفع المباني عن الأرض.

ومستذكراً تلك الأيام بنبرة يشوبها الحنين إلى الماضي، يقول القرقاوي:

“كنا نواصل الليل بالنهار ونحن نعمل لإنجاز البناء في الفترة المحددة وكان الشيخ محمد يفاجئنا بزيارات ميدانية أول الصباح وأحيانا قبل السادسة صباحاً قبل وصول المهندسين للوقوف على سير المشروع، والتأكد من انسيابية العمل “

 

 

ومستذكراً تلك الأيام بنبرة يشوبها الحنين إلى الماضي، يقول القرقاوي

         

 

   الأعمال الإنشائية لمدينة دبي للإنترنت عام 2000

الأعمال الإنشائية لمدينة دبي للإنترنت عام 2000

ويشير القرقاوي إلى أن مشروع مدينة دبي للإنترنت لم يبنَ لخدمة أهداف قصيرة المدى.. أو لزمن معين.. أو لجيل محدد.. وإنما كان يحمل أبعاداً استراتيجية كبيرة على المدى البعيد.. ولهذا تم تخصيص مساحات كبيرة للمشروع وضخ كل الإمكانيات لتدشينه بنجاح. وحول مساحة المشروع، يقول القرقاوي: تم حينها تخصيص أكثر من 18 هكتاراً لبناء المدينة وتم إعداد مبان من أربعة أدوار بلغت مساحتها 380 ألف قدم مربع.

 

اكتمال أعمال بناء مدينة دبي للإنترنت عام 2000

أكتوبر 2000: حفل الافتتاح والعبور نحو المستقبل

ويروي القرقاوي تفاصيل تدشين مدينة دبي للإنترنت بقوله: في 28 أكتوبر عام 2000 بعد 364 يوم من المؤتمر الصحفي الأول، دشن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مدينة دبي للإنترنت بحضور عدد من المسؤولين وممثلين عن شركات تكنولوجية ضخمة حيث كانت قد حصلت أكثر من 194 شركة تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات على ترخيص، لتتخذ من مدينة دبي للإنترنت مركزاً لإدارة عملياتها، وكان من ضمن هذه الشركات، شركات عملاقة، مثل مايكروسوفت وأوراكل وسيستمز وماستركارد وكومباك.

مدينة دبي للإنترنت - أكتوبر 2000: حفل الافتتاح والعبور إلى المستقبل

 

أول فريق عمل لمدينة دبي للإنترنت عام 2000

أول فريق عمل لمدينة دبي للإنترنت عام 2000

كان هذا التاريخ مميزاً بالنسبة لإمارة دبي التي شهدت في ذلك اليوم أكبر حدثين في قطاع تكنولوجيا المعلومات في المنطقة، ففي الصباح تم افتتاح معرض الخليج لتكنولوجيا المعلومات (جيتكس 2000) في دورته العشرين، فيما دشن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في المساء مدينة دبي للإنترنت لتكون أول منطقة حرة للتكنولوجيا والتجارة الإلكترونية والإعلام في العالم.

 

ويشير القرقاوي خلال حديثه إلى مقولة الشيخ محمد بن راشد الملهمة خلال حفل تدشين المدينة: “أكبر مخاطرة ألا تخاطر”.. وتساءل سموه: ماذا بعد هذا الإنجاز، هل تعتقدون أن رؤيتي قد تحققت؟ علينا في هذا الاقتصاد العالمي الجديد أن نبذل المزيد من الجهد وبطريقة أكثر ذكاء فهناك المئات من الدول والمدن التي تسعى الى احتضان الافكار واجتذاب رؤوس الأموال. إن ما يجذب المستثمرين من الشركات والأفراد في ظل الاقتصاد الجديد هي بيئة العمل المناسبة من بنى تحتية إلى مزايا تشجيعية وقيادة حكيمة وواعية وقوانين مبسطة وسوق مفتوحة وسهولة في تحريك رؤوس الأموال. وهذا ما قمنا به لتصبح دبي مركزاً للاقتصاد العالمي الجديد، وأضاف: “في السباق نحو التميز ليس هناك خط للنهاية هذا ما اقوم بتكراره دائما للعاملين معي.”

نعم.. ليس هناك خط للنهاية في سباق الإنجازات .. فرغم النجاح الباهر لإطلاق مدينة دبي للإنترنت عام 2000، إلا أن المهمة لم تكن قد انتهت بعد كما يسرد أول مدير عام للمدينة حيث تخللت خطة المدينة عدداً من المراحل وكانت قد تمت مضاعفة المباني لاستيعاب طلبات الشركات مع تقدم 350 شركة جديدة بطلبات لإنشاء مقار لها في المنطقة الإلكترونية الحرة، ويقول القرقاوي إن إدارة المشروع كانت قد وضعت حينها هدفاً أساسياً في زيادة عدد من الشركات الجديدة في هذه الصناعة الحديثة لفتح خطوط أعمال جديدة ودعم توجه دبي في بناء اقتصاد قائم على المعرفة والتكنولوجيا.

” كانت هناك آمال عظام معلقة على هذا المشروع لدى تأسيسه في 1999 بقيادة دبي لثورة الإنترنت والتحول من الاقتصاد التقليدي إلى التجارة الإلكترونية، وتطوير صناعة متكاملة لتكنولوجيا المعلومات التي تمثل الاقتصاد الجديد”، هكذا أنهى القرقاوي حديثه عن هذه المرحلة من المشروع التي شكلت الانطلاقة الكبرى لدبي نحو العالمية عبر مواكبة متغيرات العصر الذي تشكله التكنولوجيا.

محمد بن راشد يتفقد مقر مدينة دبي للإنترنت عام 2000

محمد القرقاوي يضع حجر الأساس لشركة “آي بي إم  IBM”   بحضور ممثلين عن الشركة

 

2020 : الإمارات” سيليكون فالي الشرق الأوسط”

ومنذ بداية القرن الواحد والعشرين، ساهم مشروع مدينة دبي للإنترنت في خلق بيئة أعمال جاذبة وبنية تحتية متينة، مما جعل دبي محط أنظار المنطقة ومكنها من حجز مقعد لها في عالم الاقتصاد الرقمي بقوة وثقة ليس لها مثيل، وهو ما عزز من صلابة نموذجها التنموي الذي شكك به البعض مع بداية إعلانها عن مشاريعها وخططها الكبرى.

محمد بن راشد يتفقد المقر الإقليمي لشركة مايكروسوفت في دبي عام 2002

ومن عدة آلاف من الأقدام المربعة.. ومن 194 شركة.. و 3000 متخصص في مجالي التكنولوجيا والمعرفة عام 2000 … إلى أكثر من ستة ملايين قدم مربعة.. وأكثر من 1600 شركة.. و32 ألف متخصص في عام 2020.. هذه الأرقام برهان على أن مشروع مدينة دبي للإنترنت لم يكن مشروعاً عقارياً كما يظنه البعض، وإنما كان مشروعاً اقتصادياً وتنموياً كبيراً ساهم في بناء مجمعات للأعمال وإضافة قطاعات اقتصادية جديدة للاقتصاد المحلي، واليوم أصبحت مدينة دبي للإنترنت أكبر مجمع لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. وأضحت دانة الدنيا عاصمة للاقتصاد الجديد.

باختصار.. إن ما تحقق ما هو إلا انعكاس للرؤية الثاقبة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قبل 21 عاماً حينما راهن سموه على نفط المستقبل لإيمانه بأن الإنترنت سيشكل بعد سنوات ثورة معرفية وتقنية ستحتاج لمساحات جغرافية كبيرة لتملأها ومساحات فكرية لتغيرها وقطاعات اقتصادية لتصنع لها خريطتها الجديدة.. واليوم أضحت هذه الرؤية حقيقة واقعة تفاخر بها الإمارات العالم.

ويقول الشيخ محمد: “لقد ساهمت مدينة دبي للإنترنت بشكل كبير في مواكبة الكثير من المتغيرات التقنية التي مرت بنا، وحان الوقت لتكون المدينة وجهة جديدة لصناعة التغيير في العالم من حولنا.”

“لقد تحولت مدينة دبي للإنترنت إلى سليكون فالي الشرق الأوسط ونحن فخورون بهذا المشروع الذي حولنا لوجه لكبريات الشركات العالمية والمواهب والمبدعين” بهذه الكلمات اختتم محمد القرقاوي حديثه عن قصة بناء هذه المدينة المليئة بالنجاحات والإنجازات”، مضيفاً: خلال فترة قصيرة، شهدت المدينة سلسلة من الصفقات المليارية Unicorn لاستحواذ مجموعة من الشركات العالمية على شركات خرجت من مدينة دبي للإنترنت، بينها شركة “كريم” التي بيعت لشركة “أوبر” بـ11 مليار درهم، وأيضاً “سوق.كوم” التي بلغت صفقة الاستحواذ عليها من شركة “أمازون” أكثر من ملياري درهم، وصفقة” ميديا دوت نت” بمبلغ 3.3 مليارات درهم.

كلمة أخيرة

من حلم يحركه إيمان راسخ بأن لا شيء مستحيل على دولة الإمارات، مهّد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لمستقبل مشرق لدولة الإمارات على مختلف الأصعدة.. واليوم نحن نقطف ثمار هذه الرؤية الاستباقية بأننا أصبحنا دولة المستقبل.